يوم سماءه ملبّدة بالغيوم ... شوارعه مزدحمة ... معالم ليست بالجديدة على شتاء قاهرة القرن الحادي و العشرين .. لكن ما هو مميّز حتما هو تلك الأعلام المصرية التي ترفرف في أيادي كثير من المشاة و قائدي السيارات .. بل في بعض الأحيان إعتلت الأعلام السيارات، خصوصا سيارات الأجرة حيث يرجع هذا لرغبة قائديها في إجتذاب الزبائن الذاهبين لإستاد القاهرة الدولي لمشاهدة تلك المباراة الدولية المقامة بين فريق مصر القومي لكرة القدم و فريق المغرب الشقيق .. تشعر بالحماس يخرج شررا من أعين الناس .. و السعادة ترسم الإبتسامة على شفاهم .. إن لم تكن من أهلها لظننت أنّ اليوم عيد أو أنّ إنجازا قوميا على مشارف أن يتحقق .. لكنّه للأسف يعود لأنّ هناك مباراة رياضية ستقام مساء اليوم!
إذا تأمّلت في هذه المظاهر .. سيصيبك العجب و الإستغراب حتما من هذا الإنتماء و التجمهر الملفت حول مباراة كروية لا تعدو كونها مجرد منافسة رياضية ينال خيرها المحسن و يخسرها المقصّر .. و رغم الخسائر و الكبوات التي تلقاها فرق كرة القدم المصرية و بشكل يكاد يكون متتالي، فإنّ تلك الجماهير ما زالت مصرّة على متابعة فرق تلك الرياضة الأكثر الشعبية في العالم منتظرين نصرا يغيّر من مرارة الهزيمة و الدونية التي صارت من أعمدة الشعور العام في الشارع العربي .. إذاً! فالمسألة نفسية قومية أكثر منها مجرّد تشجيع أجوف لفرق رياضية لا يأبه نجومهم لتشجيع و حبّ جمهورهم.
يطرق الأجراس بعقولنا هنا سؤالا ملحّا: ما دام ذلك الإنتماء مستعرّا في قلوب الشعوب ... فأين يقف شعبنا بين الشعوب المتقدمة و من تنفيس ذلك الحماس و تلك الحمية في سبيل خدمة أوطانهم؟ الإجابة معروفة ضمنا .. لكن الأسباب هي التي تحتاج لعرض و تحليل إن إحتاج الأمر.
من الواضح في بلادنا العربية أن هناك طاقات طبيعية مكبوتة في نفوس الناس .. تلك الطاقات لها منفذ و مخرج واحد .. لكنّها تجد طرقا متشعّبة لتسلكها لحظة خروجها. فمنها طرق شرعية و طرق أخرى غير شرعية. و العالم مليء بالجماعات ذات الإنتماءات و الإهتمامات المختلفة ... و الإنتماءات أنواع؛ فمنها الوطني و منها السياسي و منها الفني و الإجتماعي الخيري و كذلك الإنتماء الديني. في المعتاد يجمع الإنسان المعاصر الناجح بين عدد من الإنتماءات في عدة مجالات، فإنتماءه لوطنه شيء و إنتماءه لفريق رياضي شيء آخر، و إنتماءه لمجتمعه و أهله شيء بينما إهتمامه بأعمال كاتب أو مفكّر شيء آخر؛ فلا يؤثر هذا على ذاك و لا العكس يحدث. لكن كلّ إنتماء فيهم تُفرّغ به طاقات نفسية ممّا يسدّ إحتياجات روحية وعقلية و فكرية مختلفة؛ و بذلك تجد الطاقات الداخلية للإنسان ملاذها بدلا من أن تكبت و تصبح مع الوقت مصدر ضرر و ضرار على الفرد و المجتمع من حوله.
بالعودة إلى شعوبنا نجد أن كلّ تلك الطاقة الإنتمائية يتمّ توفير منافذ معدودة و محدودة لتفرّغ بها تكاد لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة. فالإنسان العربي لا يعبّيء ميوله إلا في إتجاهات محددة – أغلبها تافه بلا هدف نافع -، و هي معروفة لدا جميع من عايش المنطقة العربية: يبدأها بالإنتماء لفرق كرة القدم المسنودة بدعم إعلامي هائل لأحداث بطولاتها و نشر أخبار فرقها و أولئك المدعوين كنجوم اللعبة، و تتميّز المنافسات الرياضية (المزيّنة عندنا) بأنّها قادرة على جذب إهتمام جميع شرائح المجتمع و مختلف طوائفه. يلي كرة القدم الإهتمامات الفنيّة بالممثلين و المغنيين و المطربين إلى القائمين على المهن التي تندرج تحت ذلك البند، و قد يقوم ذلك بشدّ إنتباه من تبقوا من شرائح المجتمع الأعلى التي تعاني من فراغ يشجّع على الهوس بالفنّ و أهله. لم نرى إلا نادرا أحد المهتمين بالحركة الثقافية أو العلمية من بيننا، هذا بالطبع إلى جانب إنعدام الأنشطة السياسية، و سلبية الجهات الإجتماعية تجاه دعوة الناس للمشاركة في العمل العام و خدمة المجتمع، و يضاف إلى كل ما سبق الأزمات الإقتصادية الطاحنة التي تجعل كلّ فرد لا همّ له سوى همّه و بالتالي لا يجد داعي ليبحث عن ما ينمّي معارفه و لا يشعر بضرورة أن يشارك في مساعدة الآخرين طالما لم يسدّ إحتياجاته الأساسية؛ و يغلّف إنعدام الوعي و الإدراك الديني و محاولات تنحية دور الدين الحقيقي جانبا من حياة الناس كل تلك العوامل مما يؤدّي لأن يصبّ فرد يعيش في محيط كهذا – و مثله أغلبية – كل أوقات فراغه في محاولة إلتقاط أنفاسه من لهاث السعي وراء الرزق و من المتعارف عليه أن الذكور يجدون ملاذهم في متابعة بطولات الرياضة و الإناث يحرصون على متابعة أخبار الفنون الغير هادفة كالغناء و المسلسلات عديمة الحكمة على شاشات التلفاز.
أمّا عن الشباب فمن المفجع مطالعة حال إهتماماتهم التي تنصبّ كلّها في مثل تلك الأمور مع إستثناء السعي وراء العلم و إستبداله بالسعي وراء اللهو الضار أو الغير نافع بألوانه المتعددة.
أما عن من لم تنجح معهم كلّ تلك الوسائل؛ فلا تسألني عن أولئك الذين لم يجدوا ما يفرّغوا به طاقاتهم (سواء في نفع أو حتى ضرر)! يعاني العالم الآن الأمرّين من إستعمالهم كعرائس في تحريك نزعات التطرّف في كل شيء و كل مكان بإستغلال فراغهم و طاقاتهم التي لم تجد لها مرحّب ولا مقدّر ... تعصّب أعمى صار ينتشر كالنار في الهشيم: سواء في أوساط فقراء الشرق أو بين مترفي الغرب. و صار كلّ شيء صالحا لأن يكون لعبة في أيدي بعض من يبغون نشر الفساد في الأرض ليستخرجوا من بين نيران العالم التي أشعلوها مصالحهم الخاصة اللامتناهية. كلّ ما نعانيه الآن هو نتاج عمل دءوب متواصل من قوى الشرّ و الظلام لإزهاق الحق ليأخذوا أكثر مما قسّم لهم كحقّ. جهود بدأت من سنين طويلة قد تتجاوز قرنا و أكثر لنشر الإلحاد و إضعاف فكرة الدين و إستبداله بالمادية و العلمانية و الشيوعية إلى ما آخره من أيديولجيّات متعاقبة و متتابعة، إذ لم نكن نسلم من إنهيار معقل إحداها حتى قامت لغيرها قائمة؛ جميعهم مختلفي الوسيلة لكن هدفهم واحد و مركّز لذوي البصيرة ألا و هو جرّ العالم إلى طرد الرحمة من جنباته و تحويله إلى غابة كبيرة يأكل فيها الكبير الصغير دون وجه حقّ و دون مراعاة لأدنى معنى للإنسانية أو للعدل.
فلم لا نفيق و ننأى بأنفسنا و لنأخذ بأيدي من هم حولنا للنجاة من تلك المخططات التي إن نجحت في سبر أعماقنا لأكلنا بعضنا البعض في الدنيا لنتبوّأ مقاعدنا في نيران الجحيم بالآخرة. فليعيد كل منا تعريفه لمعنى الحياة و لتكن دار إصلاح و بناء و علم و تكافل. و لنوزّع أوقاتنا التي نمضيها بالدنيا حتى يأخذ كل شيء حقه و بهذا نكسب الدنيا و الآخرة معا. فالله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment